الإعجاز الهندسي والطموح الإنساني الجامح .

قناة بنما

Panama Canal

نبذة تاريخية: منذ مئات السنين وقبل افتتاح قناة بنما، كان الحلم يساور المئات من الناس من البلدان المختلفة في شقّ قناة عبر أمريكا الوسطى. والواقع أن الأمر يعود إلى عام 1517م، حين رأى فاسكو نونيز بالبوا وهو أول أوروبي يرى المحيط الهادئ إمكانية شق قناة، تربط ما بين المحيطين الأطلسي والهادئ. والواقع أنه طوال معظم سنوات القرن التاسع عشر الميلادي كانت نيكاراجوا المحور الرئيسي للجهود في سبيل شق القناة. وقامت كل من الولايات المتحدة وإنجلترا بدراسة فكرة شق قناة عبر نيكاراجوا.

وفي الأربعينيات من القرن التاسع عشر الميلادي، كادت أن تقع حرب بين الدولتين بسبب نزاع نشأ بينهما حول من يبسط سيطرته على القناة المقترحة. وفي عام 1850م اتفقت الدولتان في معاهدة كلايتون ـ بولوير، على السيطرة المشتركة على القناة المقترح بناؤها في مكان ما عبر برزخ أمريكا الوسطى. والجدير بالذكر أن بنما الحالية كانت في ذلك الزمن مقاطعة تابعة لكولومبيا. وقد خشيت كولومبيا أن تقوم إنجلترا بمحاولة بسط سيادتها على بنما لاستخدامها موقعًا للقناة. وفي عام 1846م وقعت كولومبيا معاهدة مع الولايات المتحدة. وبموجب هذه المعاهدة تعهدت الولايات المتحدة بحماية جميع الطرق التجارية عبر بنما، والمحافظة على حيادها.

سكة حديد بنما: في عام 1849م وأثناء التهافت على ذهب كاليفورنيا، أصبح برزخ بنما طريقًا مهمًا بين الجزء الشرقي من الولايات المتحدة وبين كاليفورنيا. وفي تلك الفترة أبحر كثير من الرواد الأوائل الباحثين عن الذهب من موانئ ساحل المحيط الأطلسي إلى بنما، على ظهور القوارب والبغال وعلى الأقدام. ومن ثم كانوا يستقلون سفنًا أخرى متجهين نحو كاليفورنيا. وفي عام 1850م أذنت كولومبيا لمجموعة من كبار رجال الأعمال من مدينة نيويورك ببناء سكة حديدية عبر البرزخ. واكتمل بناء الخط عام 1855م بتكاليف بلغت ثمانية ملايين دولار أمريكي. وربطت السكة الحديدية هذه بين كولون على الجانب الأطلسي ومدينة بنما على جانب المحيط الهادئ.

الفشل الفرنسي: في عام 1878م، منحت كولومبيا الفرنسي لوسيو نابليون بونابرت وايز، الحق في شقّ قناة عبر بنما. وبدوره باع هذا الحق إلى شركة فرنسية برئاسة فرديناند ماري دي لسيبس الذي سبق أن أشرف على شق قناة السويس، كما اشترت الشركة الفرنسية أيضًا حق السيطرة على سكة حديد بنما مقابل مبلغ عشرين مليون دولار أمريكي، وبدأت الشركة الحفر عام 1882م. وخططت بحيث تكون القناة على مستوى سطح البحر لتربط بين المحيطين الأطلسي والهادئ، وبهذا لا يحتاج الأمر إلى بناء أهوسة. قام دي لسيبس ومساعدوه بتخطيط الجزء الأكبر من المشروع بكل حرص، كما نفذوا جزءًا منه بشكل فعّال.

 تسببت مجموعة من السياسيين الفاسدين، الذين ساندوا دي لسيبس بسرقة مبالغ كبيرة من أموال الشركة المكلفة بشق القناة. كما أن المهندسين الفرنسيين كانوا يفتقرون إلى المعدات الملائمة لإنجاز مثل هذه الأعمال الضخمة من الحفر. علاوة على ذلك لم يكن العلماء على دراية كافية بكيفية محاربة الأمراض الوبائية الاستوائية التي أصابت العمال. وفي عام 1889م أعلنت شركة دي لسيبس إفلاسها بعد أن حفرت نحو 58 مليون متر مكعب من الأتربة وأزاحتها. وفي عام 1894م انتقلت ملكية شركة دي لسيبس وحق امتيازها إلى شركة فرنسية ثانية، هي شركة قناة بنما الجديدة. إلا أن الشركة الجديدة لم تبذل إلا جهودًا ضعيفة للاستمرار في الحفر، حيث كان همها المحافظة على حق الامتياز إلى أن يتوفر من يشتري هذا الحق.

الولايات المتحدة والقناة: في عام 1889م، بدأت مجموعة من كبار رجال الأعمال من الولايات المتحدة بالعمل في شقّ قناة عبر نيكاراجوا. إلا أنهم افتقروا إلى الأموال اللازمة بعد مدة قصيرة من بدء العمل فحاولت المجموعتان الأمريكية والفرنسية بيع حقوقهما وملكيتهما إلى حكومة الولايات المتحدة. إلا أن كبار مسئولي السكك الحديدية الأمريكية عارضوا إنشاء أي قناة في أمريكا الوسطى؛ حيث كانوا يخشون المنافسة التي ستحدثها الخطوط الملاحية التي ستستخدم القناة. ونتيجة لذلك لم تتخذ حكومة الولايات المتحدة أي إجراء حيال أي من المشروعين .

وفي عام 1898م وأثناء الحرب الأمريكية الأسبانية، أرسلت قيادة الأسطول البحري في الولايات المتحدة السفينة الحربية أوريجون من سان فرانسيسكو بكاليفورنيا بالولايات المتحدة إلى كوبا، بغرض تعزيز أسطولها في المحيط الأطلسي، وبهذا كان على السفينة أوريجون أن تبحر مسافة 20,900كم تقريبًا حول رأس أمريكا الجنوبية.

الواقع أن الرحلة لا تتجاوز 7,400كم، لو تمت عبر قناة بين المحيطين . وبهذا عملت هذه الحقيقة على إقناع الكونجرس (الهيئة التشريعية في الولايات المتحدة) بأن شق قناة في هذه المنطقة يُعدُّ أمرًا مُهمًا لأغراض الدفاع الوطني. في عام 1899م فوَّض الكونجرس هيئة لدراسة إمكانية شق قنوات محتملة، فحبذت الهيئة نيكاراجوا، حيث ستكون أعمال الحفر هناك أقل مما هي عليه عبر بنما. ولكن الشركة الفرنسية عرضت أن تبيع حق امتيازها وممتلكاتها في بنما بالإضافة إلى سكة حديد بنما مقابل مبلغ 40 مليون دولار أمريكي. وأقنع فيليب بانو فاريلا رئيس الشركة الفرنسية بعض الأمريكيين من ذوي النفوذ بوجود خطر حدوث زلازل نتيجة وجود براكين في نيكاراجوا وبأن بنما هي أكثر أمانًا.

في عام 1902م منح الكونجرس الرئيس تيودور روزفلت إذنًا بقبول العرض الفرنسي إذا ما وافقت بنما على منح الولايات المتحدة حق الاستخدام الدائم لمنطقة القناة. وقد اتخذ الكونجرس قراره بعدما استبدلت الولايات المتحدة بمعاهدة كلايتون ـ بولوير معاهدة هاي ـ بونسفوت. وهذه المعاهدة منحت الولايات المتحدة الحقَّ في بناء قناة عبر أمريكا الوسطى وتشغيلها فقط.

في عام 1903م وقع وزير خارجية الولايات المتحدة جون هاي معاهدة القناة مع ممثل كولومبي يدعى توماس هيران. وقد نصت المعاهدة على أن تدفع الولايات المتحدة مبلغ عشرة ملايين و250 ألف دولار أمريكي أجورًا سنوية مقابل استخدام نطاق القناة. إلا أن المجلس التشريعي الكولومبي، لم يوافق على تلك المعاهدة بحجة أن تلك المبالغ لم تكن كافية.

خشيت جماعة من البنميين أن تفقد بنما المزايا التجارية لشق قناة عبر البرزخ، كما انتاب القلق الشركة الفرنسية من أن تفقد فرصة بيع ممتلكاتها للولايات المتحدة، لذلك في نوفمبر عام 1903م بمساعدة من الفرنسيين وتشجيع من الأمريكيين قام البنميون بثورة ضد كولومبيا وأعلنوا استقلال بنما، وبموجب المعاهدة الموقعة مع كولومبيا عام 1846م قامت الولايات المتحدة بإرسال سفن إلى بنما بغرض حماية السكك الحديدية، فنزل مشاة البحرية الأمريكية في كولون ومنعوا القوات الكولومبية من الوصول إلى مدينة بنما، التي كانت مركزًا للثورة وفي السادس من نوفمبر عام 1903م اعترفت الولايات المتحدة بجمهورية بنما. وفي خلال أسبوعين وقَّعت بنما والولايات المتحدة معاهدة هاي _ بانو _ فاريلا. والتي منحت الولايات المتحدة بمفردها حق الاستخدام الدائم لمنطقة قناة يكون عرضها 16كم . وأن تقدم إلى بنما مبلغ عشرة ملايين دولار أمريكي بالإضافة إلى 250 ألف دولار أمريكي تدفع سنويًا ابتداءً من عام 1913م.

مكافحة الأوبئة: كان برزخ بنما أحد أكثر المناطق الموبوءة بالأمراض في العالم، ففي عام 1904م تسلم الطبيب العقيد وليم جورجاس مسئولية تحسين الأحوال الصحية في منطقة القناة، نظرًا لجهوده في القضاء التام على مرض الحمى الصفراء في هافانا عاصمة كوبا في فترة ما بعد الحرب الأسبانية الأمريكية.

بدأ جورجاس في إبادة مجموعات البعوض التي كانت تنقل الملاريا والحمى الصفراء، والواقع أن أول عامين من بناء القناة خصصا بشكل كبير لإزالة الأشجار، وتجفيف المستنقعات وتنظيف مناطق واسعة من الأعشاب التي كانت تحتشد فيها أسراب البعوض. ومع حلول عام 1906م كان جورجاس قد قضى تمامًا على الحمى الصفراء، واستأصل الجرذان التي كانت تنقل وباء الطاعون الدَّبْلي في منطقة القناة. ومع بداية عام 1913م كان قد نجح في التقليل من نسبة الوفيات الناجمة عن مرض الملاريا

الحفر عبر البرزخ: عيَّن الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت هيئة مدنية لقيادة مشروع القناة. وفي عام 1906م قرر الكونجرس بناء قناة بأهوسة لا تكون بمستوى سطح البحر كما خطط لها الفرنسيون من قبل، حيث اعتقد المهندسون أن بناء قناة بأهوسة سوف يتحكم في مياه فيضانات نهر تشاجريز بشكل أفضل، مما لو تم بناء القناة في مستوى سطح البحر. وسار العمل بطيئًا، وكان السبب الرئيسي لذلك هو الخلافات التي نشبت بين أعضاء الهيئة.

في عام 1907م اختار الرئيس روزفلت مهندس الجيش العقيد جورج جوثالز ليكون مسئولاً عن المشروع وعن منطقة القناة. وتضمنت مهام الإنشاء ثلاثة مشروعات هندسية رئيسية؛ فكان على عمال البناء أن يقوموا بأعمال الحفر في معبر جيلارد، وأن يبنوا سدًا على نهر تشاجريز لإنشاء بحيرة جاتن، كما كان عليهم إنشاء أهوسة القناة. وكان أكبر عمل قاموا به هو حفر معبر جيلارد. وكانت التلال التي تم شق المعبر فيها، تتكون من مواد بركانية لينة، لدرجة أن الحفر بها كان كالحفر في كومة من الحبوب.

 

في الوقت الذي كان العمال يحفرون فيه حفرة كان المزيد من الصخور والأتربة ينزلق في المكان أو ينهار من الأسفل، وقد قدر المهندسون أن عليهم أن يزيلوا ما مقداره 73 مليون متر مكعب من الأتربة والصخور، لينجزوا بناء القناة. والواقع أنهم قاموا بحفر ما يبلغ 161 مليون متر مكعب وإخراجه. وفي وقت لاحق تم استخدام بعض تلك الحفريات في إنشاء سد جاتون.

في عام 1913م بلغ العمل ذروته؛ حيث كان هناك أكثر من 43,400 شخص يعملون في قناة بنما. كان ثلاثة أرباع العمال من السود الذين قدموا من جزر الهند الغربية البريطانية، كما جاء عمال آخرون من إيطاليا وأسبانيا، إلا أن معظم موظفي الأعمال الكتابية والعمال المهرة كانوا من الولايات المتحدة.

التقاء المحيطين: أنجزت أعمال البناء الرئيسية في قناة بنما عام 1914م؛ حيث قامت سفينة ركاب تعود ملكيتها لشركة سكة حديد اس. اس. آنكون بأوَّل رحلة كاملة عبر القناة، وقد أبحرت السفينة من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ، وبذلك حققت شعار القناة القائل الأرض مقسمة لكن العالم متحد. وفي عامي 1915 و1916م تسبب انزلاق أرضي هائل في معبر جيلارد في إغلاق القناة، بضعة أشهر، إلا أنه كان العائق الأخير في تشغيل قناة بنما. وفي 12 من يوليو عام 1920م أعلن رئيس الولايات المتحدة وودرو ولسون الافتتاح الرسمي لقناة بنما. ولقد بلغت التكاليف التي أنفقتها الولايات المتحدة على إنجاز هذه القناة 380مليون دولار أمريكي تقريبًا، بما فيها 40 مليون دولار، دفعت للشركة الفرنسية، و10 ملايين دولار مقدَّمة إلى حكومة بنما، ومبلغ 20 مليون دولار أنفقت على الأمور الصحية. وبهذا بلغت التكاليف الفعلية لأعمال الإنشاءات بالقناة 310 مليون دولار أمريكي

القناة منذ عام 1920م. كان سد مادِّين الذي أنجز عام 1935م، العمل التحسيني الأول الذي أجري على القناة. ويقع السد عبر نهر تشاجريز في الجهة الشرقية من القناة، مستحدثًا بحيرة مادين التي تبلغ مساحتها 57 كم مربع، والتي تختزن المياه بغرض استخدامها في بحيرة جاتن. كما أن السد يحتجز مياه فيضانات نهر تشاجريز أثناء فصل الشتاء.

في عام 1936م وافقت الولايات المتحدة على رفع المبلغ، الذي تدفعه لبنما ليصل إلى 430 ألف دولار أمريكي، وذلك تعويضًا لها عن انخفاض قيمة الدولار. وفي عام 1955م رفع المبلغ ليصبح مليوني دولار أمريكي سنويًا تقريبًا. وفي الخمسينيات من القرن العشرين. بدأ المهندسون في توسيع معبر جيلارد من 90م، ليصل إلى 150م . وقد تم إنجاز هذا المشروع عام 1970م.

في عام 1971م شرعت بنما والولايات المتحدة في مفاوضات لعقد معاهدة جديدة تحل محل معاهدة 1903م. ففي عام 1977م، وقعت الدولتان معاهدتين جديدتين ضمنت إحداهما انتقال السلطات التشريعية الإقليمية على القناة إلى حكومة بنما عام 1979م، كما ضمنت هذه المعاهدة أيضًا أن تتولى بنما السيطرة على عمليات تشغيل القناة في 31 من ديسمبر من عام 1999م. أما المعاهدة الثانية فقد منحت الولايات المتحدة الحق في الدفاع عن حياد القناة .عددًا كبيرًا من الأمريكيين أبدوا معارضتهم للتخلي عن حق السيطرة على القناة والمنطقة التابعة لها، حيث عدُّوها جزءًا من أملاك الولايات المتحدة، إلا أن هناك أمريكيين آخرين استحسنوا ما ورد في المعاهدتين، وهؤلاء أخذوا في اعتبارهم، أن مواصلة سيطرة الولايات المتحدة، قد يلحق الضرر بالعلاقات مع دول أمريكا الجنوبية.

وافق الناخبون البنميون على الاتفاقيتين عام 1977م، ووافق عليهما مجلس الشيوخ الأمريكي عام 1978م، ومن ثم أصبحتا نافذتي المفعول عام 1979م. وفي عام 1986م شرعت الولايات المتحدة واليابان وبنما في إجراء دراسات بشأن توسيع القناة، أو شق قناة جديدة على مستوى سطح البحر لا يتطلب المرور بها وجود أهوسة. حيث أن القناة الراهنة لا تسمح بالمرور ثنائي الاتجاه، وأن كثيرًا من السفن لا تتمكن من المرور عبر نظام الأهوسة الحالي. وفي 14 ديسمبر 1999م، دشنت رئيسة بنما مايريا موسكوزو احتفالات عودة القناة لبنما.

معلومات عامة عن القناة: قناة بنما ممر مائي يعبر برزخ بنما، ويصل ما بين المحيطين الأطلسي والهادئ، وتُعد هذه القناة من أعظم الإنجازات الهندسية في العالم. عملت القناة ـ بعد الانتهاء من شقها عام 1914م ـ على اختصار مسافة رحلة السفن ما بين مدينة نيويورك وسان فرانسيسكو إلى أقل من (8730 كم)، وفي الفترة التي سبقت شق هذه القناة، كان على السفن التي تقوم بمثل تلك الرحلة، أن تبحر حول أمريكا الجنوبية قاطعة نحو (20900 كم). قامت الولايات المتحدة الأمريكية ببناء قناة بنما بتكلفة بلغت 380 مليون دولار أمريكي تقريبًا. وقد عمل آلاف العمال في هذه القناة لمدة عشر سنوات مستخدمين مجارف البحار وآلات رفع الأتربة، ليشقوا طريقهم عبر الغابات والتلال والمستنقعات. وكان على أولئك العمال أن يتغلبوا على مشكلة الأمراض المدارية مثل الملاريا والحمى الصفراء..

تمتد قناة بنما مسافة 81.63 كم ، ابتداءً من خليج ليمون على المحيط الأطلسي إلى خليج بنما على المحيط الهادئ. تبحر السفن المسافرة عبر القناة من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي.

بالقناة ثلاثة أطقم من حجرات مليئة بالماء تسمى الأهوسة تعمل على رفع السفن وخفضها من مستوى إلى آخر. وقد بنيت تلك الأهوسة على شكل أزواج بغرض تمكين السفن من المرور في كلا الاتجاهين في آن واحد. يبلغ طول الهويس المستخدم 300م، وعرضه 34م، وبعمق 20م. تحدد أبعاد الهويس حجم السفن التي بوسعها استخدام القناة. فعلى سبيل المثال لا تتمكن ناقلات النفط التجارية العملاقة أو حاملات الطائرات العملاقة التابعة للأسطول الأمريكي من المرور بهذه القناة.

منحت معاهدة عام 1903م بين الولايات المتحدة وبنما، الحق للولايات المتحدة في بناء ذلك الممر المائي وتشغيله. وأن تحكم منطقة من الأرض على جانبي القناة تسمى نطاق قناة بنما. وحاولت بنما منذ سنوات كثيرة أن تتسلم السيطرة على القناة والمنطقة التابعة لها. وفي عام 1977م وقعت بنما والولايات المتحدة معاهدة جديدة، تسلمت بنما بموجبها سلطات الحكم المحلية التشريعية على منطقة القناة في عام 1979م. إلا أن الولايات المتحدة، احتفظت بالسلطات الإدارية لبعض المنشآت العسكرية والمناطق الضرورية لتشغيل القناة والدفاع عنها. كما منحت المعاهدة بنما الحق في أن تتولى عمليات تشغيل القناة والمنشآت العسكرية المتعلقة بها ابتداءً من 31 ديسمبر عام 1999م، إلا أن المعاهدة الثانية منحت الولايات المتحدة الحق في الدفاع عن حياد القناة.

رحلة عبر القناة

دخول القناة: تدخل السفينة المبُحْرة من المحيط الأطلسي عن طريق خليج ليمون ميناء مدينة كريستوبال بالقرب من مدينة كولون، في الوقت الذي تكون فيه السفينة لا تزال في المياه العميقة، يصعد أحد مرشدي القناة على ظهر السفينة قادمًا من قارب صغير، ولدى صعوده يصبح مسئولاً مسئولية كاملة عن السفينة أثناء رحلتها في القناة. وبعد المرور خلال الحاجز المنصوب في مدخل الخليج، تتجه السفينة جنوبًا في القناة لمسافة (11كم) في طريقها إلى هويس جاتن

أهوسة جاتن: تبدو أهوسة جاتن وكأنها سلالم عملاقة، تتكون تلك الأهوسة من ثلاثة أزواج من غرف إسمنتية تعمل على رفع السفن لمسافة (26متر) فوق مستوى البحر تقريبًا، لتنقلها إلى بحيرة جاتن، وهناك قاطرات صغيرة تعمل بالتيار الكهربائي وتسمى البغال، تسير على سكك حديدية على جانبي الأهوسة، تساعد تلك القاطرات على وضع السفن في الأهوسة وتثبيتها، كما أنها تسحب السفن الصغيرة وترشدها أثناء عبورها الأهوسة، وتعبر السفن الكبيرة خلال الأهوسة بقوتها الذاتية، إلا أن القاطرات تساعد في سحبها وإرشادها، ولدى اقتراب السفن الصغيرة من الغرفة الأولى تتوقف محركاتها، أما السفن الكبيرة فتبقى محركاتها في حالة تشغيل، ويقوم عمال القناة بربط نهايات حبال القاطرات بالسفينة. وبعد ذلك تقوم القاطرات بسحب السفن الصغيرة، أو تعمل على المساعدة في سحب السفن الكبيرة، إلى الغرفة الأولى.

 وتغلق البوابات الفولاذية الضخمة خلف السفينة. ويقوم عمال القناة بفتح صمامات تسمح بتدفق الماء من بحيرة (جاتن) إلى الغرفة من خلال فتحات في الجزء السفلي من الهويس. وخلال مدة تتراوح ما بين (8 إلى 15 دقيقة) يرفع الماء المتدفق السفينة ببطء. وفي الوقت الذي يصل فيه مستوى الماء المتدفق إلى مستوى الماء في الغرفة الثانية تنفتح البوابة الموصدة أمام السفينة، إلى الخارج فتسحب القاطرات السفينة أو تساعدها على الانتقال للغرفة الثانية، ومن ثم يرتفع مستوى الماء ثانية. وتتكرر هذه العملية إلى أن تعمل الغرفة الثالثة على رفع السفينة إلى مستوى بحيرة (جاتن).

بحيرة جاتن: يقوم عمال القناة بإرخاء الحبال فتبحر السفينة خارج الهويس بقوتها الذاتية. وبعد ذلك تشق طريقها جنوبًا عبر المياه الهادئة لبحيرة (جاتن)، ثم تمر عبر سد بحيرة جاتن نحو الجهة الغربية من الأهوسة. والجدير بالذكر أن هذا السد الذي تبلغ سعته (18 مليون متر مكعب) من الماء، هو أحد أكبر السدود في العالم. لقد كون سد (جاتن) هذه البحيرة التي تبلغ مساحتها (422كم مربع)، بحجزه مياه نهر شاجريز، الذي يصب في المحيط الأطلسي بالقرب من نهاية القناة. تتابع السفينة سيرها عبر البحيرة من أهوسة جاتن إلى جامبوا، سالكة طريقًا في القناة يبلغ (35كم)، وهذا الطريق كان في الماضي واديًا لنهر شاجْريز.

تبرز قمم الأشجار والتلال، في هذا الوادي فوق الماء، والواقع أن المياه كادت تغمرها، عندما قام المهندسون بإغراق الوادي لإنشاء بحيرة جاتن، فكانت أزهار البنفسج والأوراق الخضراء لنبات الزنبق، تطفو على سطح البحيرة. وهذه النباتات بسيقانها الخشنة الطويلة، قد تتشابك مع مراوح السفن، ومن ثم تشكل خطرًا على الملاحة، ولذلك تقوم الدورية الموكل إليها أمر الزنابق بالقضاء على ملايين النباتات للمحافظة على تأمين سير السفن في القناة.

معبر جيلارد: عندما تصل السفينة، إلى الطرف الجنوبي الشرقي لبحيرة جاتن، فإنها بذلك تدخل معبر (جيلارد) الذي يبلغ طوله (13كم)، وعرضه (150متر) وعمقه (13متر) في أقل المناطق عمقًا. وكلمة معبر مصطلح هندسي يشير إلى قناة أو ممر تم إنشاؤه اصطناعيًا. ويمتد معبر جيلارد بين (جولد هل) شرقًا و (كونتراكتر هل) غربًا. وكان معبر جيلارد يسمى أصلاً معبر كوليبرا إلا أنه في عام 1913م أعيدت تسميته تكريمًا للمهندس (ديفيد دوبوس جيلارد) المسئول عن الحفر بين التلال. ترفع الآلات الوحل والأتربة باستمرار من أجل المحافظة على القناة خالية من الإنزلاقات الأرضية. والواقع أنه في بعض السنوات رفعت تلك الآلات ما مجموعه (800,000متر مكعب ) من الأتربة من معبر جيلارد.

أهوسة بيدرو ميغويل وميرافلوريس. بعد أن تخرج السفينة من معبر جيلارد، تسحب القاطرات السفينة أو تساعد على سحبها إلى أهوسة (بيدرو ميغويل). تخفض هذه الأهوسة منسوب ارتفاع المياه إلى مسافة تسعة أمتار في مرحلة واحدة لتدخل السفينة بحيرة (ميرافلوريس)، ومن ثم تبحر السفينة مسافة (2.4كم) عبر البحيرة لتصل إلى أهوسة (ميرافلوريس). وهنا تقوم غرفتان بإنزالها لتصبح في مستوى المحيط الهادئ. وتعتمد المسافات التي يجب أن تقوم الغرف بإنزال السفينة إليها، على مدى ارتفاع المد أو الجزر في المحيط الهادئ. ويصل الفرق بين أعلى ارتفاع للمد وأدنى انخفاض للجزر عند طرف القناة المتصل بالمحيط الهادئ إلى نحو أربعة أمتار. أما تقلبات المد والجزر في المحيط الأطلسي فتتغير صعودًا أو هبوطًا بمعدل (60سم) يوميًا تقريبًا.

وبعد خروج السفينة من الأهوسة، تتجه عبر قناة طولها (13كم) فيما بين أهوسة (ميرافلوريس) ونهاية القناة. وفي رحلتها هذه تمر بمدن بالبوا ولابوكا ومرتفعات بالبوا، كما تمر السفينة أيضًا تحت جسر تاتشر فيري، الذي بلغت تكلفته عشرين مليون دولار أمريكي. ويُعد هذا الجسر حلقة وصل مهمة في الطريق العابر للأمريكتين. وبعد أن يغادر مرشد السفنينة تدخل السفينة خليج بنما، ثم تشق طريقها باتجاه البحر المفتوح. وبذلك تكون قد قطعت مسافة تزيد قليلاً على (80كم)، فيما بين المحيطين الأطلسي والهادئ خلال ثماني ساعات تقريبًا.

أهمية القناة

تُعدّ القناة ممرًا مائيًا حيويًا من الناحيتين التجارية والعسكرية، حيث يمر خلالها من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ ما يقارب 13,000 سفينة سنويًا، أي بمعدل 37 سفينة يوميًا. كما تبلغ حمولة تلك السفن نحو 235 مليون طن متري سنويًا. وتعمل 70% من السفن التي تبحر عبر القناة، في نقل البضائع بين موانئ الولايات المتحدة الأمريكية. ومن البلدان التي تستخدم القناة بشكل مستمر كندا واليابان. واحتفظت الولايات المتحدة بالعديد من القواعد العسكرية حتى عام 1999م بغرض الدفاع عن القناة. وتحتفظ القيادة الجنوبية للولايات المتحدة والمسئولة عن إدارة جميع الوحدات العسكرية في الولايات المتحدة في منطقة الكاريبي - بمركز قيادتها بالقرب من القناة. وقد عبرت القناة كميات ضخمة من المُعدَّات الحربية بالإضافة إلى آلاف الجنود خلال الحرب العالمية الثانية، والحربين الكورية والفيتنامية. 

الشئون الإدارية والدفاع

هيئة قناة بنما: قامت هيئة قناة بنما بتشغيل القناة وصيانتها إلى أن تسلّمت حكومة بنما السيطرة على الممر في 31 ديسمبر عام 1999م. أما الهيئة فهي الوكالة الحكومية الأمريكية، وكان يتشكل مجلس إدارتها من خمسة من الأمريكيين وأربعة من بنما. كما قامت هيئة قناة بنما بتشغيل سفينة تعمل بالبخار ظلت تنتقل ما بين نيو أورليانز بولاية لويزيانا الأمريكية وبنما. وكانت الهيئة تمتلك كثيرًا من المنازل والشقق بالقرب من القناة، ظلت تؤجرها لأولئك الذين يقومون بتشغيل القناة. كما كانت تقوم بتشغيل أنظمة الهاتف ومحطات الكهرباء ونظام توزيع المياه التابعة لمنطقة القناة. وتسيطر الآن سلطة قناة بنما على القناة. ويقوم رئيس بنما بتعيين مجلس إدارة سلطة قناة بنما ويوافق البرلمان على تعيين المجلس. ويتمتع المجلس بسلطات كبيرة لإدارة القناة.

الشؤون المالية: حصَّلت هيئة القناة الرسوم من السفن التي كانت تستخدم القناة. وتقدر الرسوم التي تُجبى من السفن التجارية بناء على حيز حمولتها. أما السفن الحربية فتدفع رسومًا تتفاوت حسب أوزانها. وبلغ مقدار ما تجبيه هيئة قناة بنما من رسوم 340 مليون دولار أمريكي سنويا. وكان يجب أن تدفع الولايات المتحدة من هذا الدخل تكاليف تشغيل القناة، بما في ذلك 20 مليون دولار أمريكي تقريبًا كانت تُدفع إلى بنما. وكانت الولايات المتحدة تدفع مقدارًا إضافيًا يعتمد على ما تجبيه القناة من واردات. وكانت المدفوعات السنوية الإجمالية تقدر بمبلغ ثمانين مليون دولار أمريكي تقريبًا، إلا أنه في عام 1988م بدأت الولايات المتحدة إيقاف المدفوعات نتيجة للخلافات التي حدثت مع حاكم بنما الجنرال مانويل نورييجا. فبدلاً من دفعها للحكومة البنمية أودعت في حسابات أحد المصارف. وفي عام 1989م وبعد خلع نورييجا أفرجت الولايات المتحدة عن الودائع المصرفية. وبعد 31 ديسمبر 1999م، بدأت سلطة قناة بنما في تحصيل الرسوم من السفن التي تستخدم القناة لصالح الحكومة البنمية.

الشؤون الدفاعية: يقتضي القانون الدولي بالسماح للسفن التجارية والعسكرية من جميع أنحاء العالم بالمرور عبر القناة في وقت السِّلم. وفي عام 1977م وقعت الولايات المتحدة وبنما اتفاقية، تضمن بقاء القناة مفتوحةً في وجه جميع الأمم حتى في وقت الحرب. وقد منحت الاتفاقية الولايات المتحدة الحق في استخدام القوة العسكرية ـ إذا اقتضى الأمر ـ للمحافظة على حياد القناة.

المصدر : الموسوعة العربية العالمية .