التفكير الجمعي . . . مرض فتاك |
دخل على أحد الملوك المولعين بالثياب الفاخرة محتالان. قالا للملك: سمعنا يا مولاي عن عظيم تقديركم للمواهب الرفيعة و الصنائع البديعة ويشرفنا أن نضع تحت تصرفكم خبرتنا العظيمة في نسج حرير الأذكياء السحري... إنه يا مولاي نسيجٌ رائع لا تبالي في أي وقت ترتديه. يدفئك في الشتاء و يريحك في الصيف فكأنك تحملُ نسيمَ الربيع معك أينما ذهبت! و بالإضافةِ إلى ذلك فإنَّ هذا القماش السحري يكشفُ لك الأغبياء من حاشيتك! نعم يا مولاي! إن ألوانه البديعة و جواهره النفيسة لا تظهرُ إلاَّ للأذكياء! انظر يا مولاي كيف يعجبُ وزيرنا الحكيم ! ألا يعجبك هذا القماش يا مولانا الوزير! سنهديك ثوباً منه بعد أن نفرغَ من ثوب جلالة الملك! عقدت الدهشةُ لسان الوزير و آثر السكوتَ فكيف سيبادر بتكذيبهما قبلَ الملك نفسه؟ وقال في نفسه يبدو أن الملك قد أعجبه القماشُ حقاً وقد يستاءُ إن أظهرتُ فطنتي قبله وانتبهتُ إلى ما لم ينتبه إليه هو . . . فلأسكت إذاً ولأكن مغفلاً حياً خيرٌ من أن أكونَ حكيماً مقتولاً أو مسجوناً! هكذا قال الوزير لنفسه و ابتسمَ موافقاً . . . مضت عمليةُ النسيج و الخياطة ببطءٍ شديد و بتكلفةٍ باهظة تليقُ بثياب الملوك و في يومِ الاحتفال تلقى الملك تهنئة الحاشيةِ كلِّها على ثوبه الجديد وانتشرت الأخبار بين العامة أن الملك سيخاطبكم الآن وهو يرتدي حرير الأذكياء السحري فاستعدوا وإياكم والشغب. بعدَ طول انتظار أطلَّ الملك من شرفة قصره العالي! و شهقت الجموع شهقةً عظيمةً واحدة: يا إلهي! ما هذا!؟. . . ما أروع هذا النسيج! بين قامات الكبار كان طفلٌ صغيرٌ يحاول أن يصرخ و لكن لم يسمعه كثير من الناس... فقد بادرت أمه إلى تكميمه. الواقفون قربه سمعوه يقول أمي أمي! الملك عارٍ الملك عارٍ!... وسمعوا أمه تقول له اخرس ولا تفضحنا بغبائك الآن! نظرَ بعضهم إلى بعض مبتسمين و قالوا مسكينٌ هذا الصغير أيُّ مستقبلٍ ينتظره!
ما هو التفكير الجمعي
هل سبق لك حضور موقف تُناقشُ فيه
جماعةٌ موضوعاً معيَّناً وفي مجرى
الحديث يتبين لك أن لديك ما تقوله
مخالفاً للرؤية السائدة في المجموعة ولكنك التزمت الصمت؟ و هل فاجأك لاحقاً
أن تعرف بأن آخرين يشاركونك وجهة نظرك
قد التزموا الصمت أيضاً؟ إن ما يجري
معك في هذا المثال و مع كلِّ البشر هو
ما يسميه إيرفنغ يانيس ( التفكير الجمعي نمطٌ من محاكمةِ الحقائق والآراء يتقدمُ فيه الحفاظُ على تماسك المجموعة (cohesiveness) وسيادتها (solidarity) على البحثِ في الوقائع بحثاً موضوعياً. بسبب الضغط الملح على التوافقية يكفُّ أفرادَ المجموعاتُ عن رفع الصوت بوجهات النظر التقويمية الناقدة التي لا تحظى بالقبول أو الخارجة عن المألوف. ونتيجةً لذلك يتدهور لدى الفرد كفاءته العقلية، واختباره للحقائق، وحكمه الأخلاقي. بدأ تناول هذه الظاهرة في العصر الحديث على يد ليفاين (Lewin) في ثلاثينات القرن العشرين وأثبتت الدراسات والتجارب اللاحقة ارتباط التفكير الجمعي مع كلِّ حالات الإضرار بقدرة المجموعة على التقويم الموضوعي للبدائل والتوصل إلى القرار الجماعي الأمثل. كيف يحدث التفكير الجمعي و ما هي مظاهره السلوكية تتهيأ الفرصة لحدوث التفكير الجمعي عند توافر عوامل معينة من أهمِّها:
إحاطة المنظمة بأحوالٍ خارجية و داخلية تعزز الميلَ نحو التماسك و الاندماج المطلق مثل: التهديدات الخارجية الخطيرة، أو حالات الفشل الذريع السابقة، أو مواجهة مصاعب شديدة في صناعة القرار، أو مواجهة المآزق الفكرية. مظاهر سلوكيات المجموعة التي يسيطر عليها التفكير الجمعي
ضغط المجموعة و التفكير الجمعي . . . أمثلة واقعية تجربة سلومون آش على انسجام المجموعة: تناولت دراسة سلومون آش (Solomon Ash) مجموعات من سبعة أو ثمانية أشخاص يجلسون في غرفة الصف ويُطلب منهم المقارنة بين بطاقتين لدى الباحث.
إنه واثق من أن السطر المطابق هو (B) ولكن الجميع قالوا بأن المطابق هو (C)، و القرار الذي يواجهه هو: هل سيعلن على الملأ تصوراً مختلفاً عن المواقف المعلنة للآخرين؟ أم سيدلي بإجابة يعلم حقاً بأنها خاطئة حتى يكون رده متوافقاً مع بقية أعضاء المجموعة؟ انساق إلى التوافق 35% من مواضيع آش المختبرين عبر الكثير من التجارب و المحاولات. أي أدلى مواضيعُ الاختبار بإجابات يعلمون خطأها لا لشيءٍ سوى أنها مسايرة لإجابات بقية أعضاء المجموعة. كارثة مكوك الفضاء تشالنجر درس آخر باهظ التكلفة في الثامن و العشرين من كانون الثاني عام 1986 شهدت سماء فلوريدا درساً دامياً باهظ التكلفة و مثالاً قاسياً على أضرار التفكير الجمعي و الانجراف مع تماسك المجموعة! انفجرَ المكوك بملاحيه السبعة بعد إطلاقه بفترة وجيزة وكان وراء الحادثة التفكيرُ الجمعي فكيف كان ذلك؟
نوقشت المشكلة في اجتماعاتٍ عدة على الهاتف و كان القرارُ النهائيُّ هوَ المضيُّ في عملية الإطلاق. بدت على مجموعة صناعة القرار أعراض التفكير الجمعي:
كيفَ نخفف الآثار السلبية للتفكير الجمعي: يقترح الباحثون تقليص آثارِ الإلحاح على تماسك المجموعة والتفكير الجمعي من خلال نشرِ الظروف التالية في بيئة المنظمة و دمجها جوهرياً في ثقافتها:
لا يتردَّدُ محامي النقيضين في استجواب و تحليل أي حقيقة مهما كانت و كائناً من كان القائل بها فرداً أو جماعة. و رغم المعنى السلبي الذي توحي به تسميةُ " محامي النقيضين" في بعض المواقف فإنَّ حضوره هو مقياسُ اختباري لسلامةِ القرارات و صحة البيئة التي تتخذُ فيها. |
نقلا عن مجلة عالم الابداع |